من هو الظاهري البليد في فهم الآثار والقواعد


بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد


هذا مقال أتكلم فيه عن نماذج من مميعة السلفية الذين جادلتهم أو رأيت جدالهم مع غيري نستخلص منه أن خصومنا هم الأولى بالتهمة التي يرموننا بها وهي عدم فهم آثار السلف وعدم فهم سياقاتها وهل هي عامة أم مخصصة وهل هي إجماع منهم أم قول أحدهم وهل يراد بها ظاهرها أم لا وغير ذلك 


فقالوا عنا أننا ظاهرية في فهم الآثار وظاهرية هنا ليس المراد بها من يفهم الكلام على ظهره فهذا أصلا صفة البشر العقلاء ويقال عمن لا يحسن ما تطلبه منه أنه يفهم الكلام مقلوبا كناية عن جهله وغبائه

بل يراد بهذه العبارة الكناية عن فرقة الظاهرية الذين يقولون أحكام الشريعة لا تؤخذ إلا من ظاهر النصوص وليس للأحكام الشرعية علة ولا سبب فبناء على ذلك لا نقيس حكما بحكم وإن اتفقا في نفس العلة 

وسيتبين لنا أن خصومنا أحق بهذه التهمة وأولى بها بل لو قيل لنا أن نصفهم فلن نحسن وصفهم بأحسن من هذا، 

على أنهم جمعوا بين المنهج الظاهري في التعامل مع علل الآثار من حيث نفي العلة والقياس ونفي دلالة التضمن 

وبين منهج أهل الرأي والكلام من حيث رد الآثار وتأويلها والتحايل عليها لإبطال أحكامها


النموذج الأول: هو حوار قمت به شخصيا مع شخص بدأ كلامه معي بأن القول بخلق القرآن كفر أصغر وانتهى باتهامه لي بالافراء عليه لما نسبت له هذه المقالة التي صرح بها في أول تعليق له 

فبداية ذكر لي كلام ابن قدامة في رسالته للفخر لما قال له أنه حتى لو أجمع المذهب على كفر القائل بخلق القرآن فالشافعي وأصحابه لا يكفرونهم إلا أبو حامد منهم وبناء على هذا النقل عن ابن قدامة حكم أن هؤلاء القوم كافرون كفرا أصغر لا يستوجبون به الخلود في النار 

وهذا استنتاج مبني على هوى وخطئين فالخطأ الأول أنه سلم بأن كون ابن قدامة ينقل هذا عن الشافعي فهو يقول به 

والثاني أنه سلم أن كون ابن قدامة ينقله عن الشافعي أنه صحيح النسبة للشافعي وهذه دعوى أول من قال بها فيما أعلم الخطابي وتبعه عليها البيهقي ثم أخذها الناس عنهما وسببها مجرد قول الشافعي أجيز شهادة أهل الأهواء إلا الرافضة فإنهم يستحلون الكذب وهذا لا شك أنه يحمل على من لم يبلغ الكفر منهم وإلا فنصوص الشافعي في تكفير من قال بخلق القرٱن وتكفيره لحفص الفرد معلومة وكذلك نصوص أصحابه كالمزني والبويطي وغيرهم بحيث لا يحملها على الكفر الأصغر إلا مكابر

وأما بخصوص قول ابن قدامة فابن قدامة نص على كفر القائل بخلق القرآن في كتاب المغني وقاسه على الذمي وأنه لا تقبل شفعته على أنه يظهر منه أنه على طريقة عموم متأخري الحنابلة في التفريق بين الداعي والمقلد ومن هنا يتبين لنا الطريقة الظاهرية البليدة المغمسة بالهوى لدى القوم فبمجرد أن رأى ابن قدامة ينقل هذا الكلام من باب الاحتجاج على خصمه الذي يلزمه باجماع المذهب فيقول له كيف تلزمني باجماع الأصحاب وهم ليسوا جميع الأمة 

ثم من نظر إلى بداية حوارهم يعلم أنهم أصلا متفقون على كفر هذه الفرق لكنهم مختلفون هل الكفار المنتسبون للإسلام هم خالدون في النار مثل الكفار الأصليين أم لا وابن قدامة كان متوقفا في هذه المسألة ويلزم القائلين أن ابن قدامة لا يكفر المعتزلة أو الجهمية أن يقولوا أنه كان يتوقف في سائر الأفعال التي حكم على أصحابها بالكفر الأصغر أو كفر النعمة هل يخلد أصحابها في النار أم لا وهذا لا يقول به عاقل قط إلا أن يزعموا أن ابن قدامة من الخوارج

وأمر ثالث أنه بمجرد هذا النص وهذا النقل حكم على كل آثار السلف التي فيها تكفير الجهمية أن معناها عندهم الكفر الأصغر

ويا ليته اعتبرها مسألة خلافية بين السلف على الأقل فيتبين لك بذلك طريقة فهم القوم للآثار فعلى كثرة حديثهم عن أنك لا يجب أن تقتص الكلام من سياقه وأنه يجب أن تجمع آثار السلف كلها لا أن تكتفي ببعضها وغير ذلك مما يدعون أنه ضوابط

لكنهم لا يلتزمون بشيء من هذه الدعاوى والسبب هو ضعف همتهم عن ذلك فأين لمثل هؤلاء أن يقرؤوا السنن والآثار جميعا حتى يأتوك بالتحرير الكامل للمسألة فلذلك تجدهم أنقض الناس لدعواهم فبدل استقراء الآثار للرد عليك يأتيك بنص لعالم متأخر ويقول لك هذا مذهب السلف ولا يجوز لك الاعتراض عليه لأن فلان هو محرر مذهب السلف 

ثم لما تعود لنفس كلامه تجد سياق كلامه ونصوصه الأخرى في كتبه تقضي ببطلان هذا الفهم 

فضلا أن هذا الذي يُدعى فيه أنه محرر مذهب السلف خالفه في دعواه محررون آخرون فكيف يحل بعد ذلك أن يدعي شخص أن فهمه لكلام فلان المتأخر من الناس هو قول السلف ولا يلقي اعتبارا أن فهمه لكلام هذا المتأخر خالفه فيه غيره من الناس وهذا المتأخر نفسه كان معترفا بوجود ناس يخالفونه في فهمه وتحريره ولم يكن يدعي أن قوله إجماع.

فهذه المسألة الأولى التي ناقشني فيها ذاك المخالف واكتفيت وقتها أن أنقل له قول الطبراني في أن من ادعى أن الجهمية يخرجون من النار فهو كمن ادعى أن اليهود والنصارى يخرجون من النار لأنهم كفار مثلهم 

ونقلت له قول أحمد أن اللفظي كافر خالد في النار فبعد ذلك خرج من هذه وراح يجادل في مسألة اللفظية والواقفة وضرب مثالا على الواقفة اسحاق بن أبي اسرائيل فقال أن السلف لم يكفروه بل بدعوه فقط رغم أن الآثار تقول أن من وقف في القرآن فهو كافر جهمي وكان يتخبط في المسألة فتارة يريد أن يستدل بها على أن التكفير يراد به الكفر الأصغر وتارة يريد الاستدلال بها على التفريق بين الاطلاق والتعين فحينها بينت له أن السلف يفرقون بين أنواع الواقفة فالواقفي الذي يكفرونه هو من يقف شكا يقول لا أدري هو مخلوق أم غير مخلوق فهذا هو الذي يكفر أما من وقف على سبيل الورع البارد بدون شك فهذا لم يكونوا يكفرونه بل يبدعونه والآثار في هذا رواها اللالكائي رحمه الله أن من وقف شاكا فهو جهمي ومن وقف بغير شك فهو مبتدع والغريب أن هذا الذي يحاورني نقل بنفسه في مجمل ما كان ينقل لي عن إسحاق بن أبي إسرائيل أنه قال لما ناظره الزبيري أنه لم يقف شكا لكنه يسكت عما لم يتكلم فيه من سبقه وقد عجبت له كيف ينقل هذه الحكاية ثم يستغرب أن السلف اكتفوا بتبديعه ولم يحكموا عليه بالتجهم ويظن أن هذا التعامل متناقض مع قولهم الواقفي جهمي وأنه يلزمنا بذلك أن نرجع لمذهبه الذي هو نفسه لا يعرفه والنتيجة من مثاله الثاني فوائد عدة أولها أننا عرفنا والحمد لله دقيق نظر السلف رضوان الله عليهم وحسن بيانهم فهم لم يكونوا كما يدعي حفنات العار من متأخري السلفية أنهم قالوا ألفاظا مجملة لم يحرروها وتركونا في ضلال لسنين حتى جاء ابن تيمية وضبط إطلاقاتهم وفصل إجمالهم ثم حرر مذهبهم الغامض المطلسم

الفائدة الثانية علمنا والحمد لله أننا نحن الذين قرأنا كتب السلف مباشرة كنا أضبط لمذهبهم وأعرف بعباراتهم من مدعيّ النظر بعيون المحررين المتأخرين، في حين أن حقيقة أمرهم أنهم يجمعون قصاصات من كلام المتأخرين ويبدون شيئا ويخفون أشياء 

ثالثا أننا علمنا والحمد لله أن السلف حيث كان المكان يحتاج لتحرير وتفصيل فصلوا وبينوا فلما وجدناهم عند اللفظية والواقفة فصلوا بين واقفي شاك وواقفي غير شاك وبين لفظي كتب الحديث أو كان عارفا بالكلام وفصلوا في القدري هل أنكر العلم أم لا ثم تركوا هذا التفصيل عند كلامهم عن القائلين بخلق القرآن دل ذلك على أن هذا الإطلاق على ظاهره

وليس للقوم ما يتمسكون به من كلام صريح إلا كلمة ابن أبي عاصم 

وابن أبي عاصم غير أنه مسبوق بإجماع الرازيين وغير أنه لم يتابعه أحد ممن نقل آثار السلف فلا نجد أحدا نقل هذا الكلام أو احتفى به من الذين جاؤوا بعده لكن المضحك أن كل من يستدلون بهذا الأثر يريدون أن يجعلوا عذره للجاهل عذرا لجميع الناس حتى من كتب الحديث وتعاطى الكلام ومن يسمى بالمحدث الفقيه المفسر فهنا يخلعون عباءة الظاهرية  ويصيرون من أهل الرأي والقياس يصبح عنده إذا ثبت العذر في مسألة فيجب العذر في جميع المسائل وإذا ثبت في حال فيجب العذر في جميع الأحوال


ثم بعد ذلك ذكر لي تكفير القدرية وأراد أن يلزمني تكفير قتادة حتى بينت له خلاف مراتب القدرية

وبعد ذلك أراد أن يقيس على ما علمته فقال لي السلف قالوا الواقفي شر من الجهمي وأنت اعترفت أن السلف كانوا يعذرون بعض الواقفة أو يفصلون فيهم فيلزمك على هذا أن تقول أن الجهمي أو القائل بخلق القرآن يعذر كذلك إذا عذر من هو شر منه فقلت له يلزمنا على هذا القياس الأحمق أن نقول أن اليهود والنصارى يعذرون كذلك لأن الآثار عن السلف جاءت أن الجهمية أكفر من اليهود والنصارى أو مثلهم وأنت لا تميز حين يقول قائل فلان شر من فلان يريد به شر منه بالمطلق مثل قولهم الجهمية شر من اليهود والنصارى -وأنا أدين لله أن هذا الكلام من السلف على حقيقته- 

أو شر منه من وجه دون وجه مثال هذا كثير من مقارنات ابن تيمية بين فرق البدعة فيقول هؤلاء شر في هذا الباب وهؤلاء شر من هذا الباب 

أو أنه شر على بعض الناس دون بعض ومثل هذا لو قال قائل المبتدع العابد شر من العاصي ليس مراده الإطلاق ولا مراده في وجه دون وجه بل مراده أن المبتدع لما يكون ورعا متعبدا فإنه يفتن الناس لهذا جاء في الآثار أن الرجل إذا ابتدع بدعة ألقى عليه إبليس ثوب الخشية يتصيد به الناس وقول السلف في الواقفة إنما أرادوا به المعنى الثالث لهذا كان أحمد يقول في الواقفي شر من الجهمي لأنهم يغرون الناس 

فهم يظهرون الوقف على أنه ورع وتقوى بينما هو شر عظيم فهذا كقولك المبتدع العابد شر من العاصي وليس مراد ذلك أنه يأثم بعبادته وورعه بل لأن حسن سمته يغر الناس فيحسنون الظن بهذه البدع


النموذج الثاني ما اطلعت عليه من مقال لسلطان العميري أنه رمى خصمه بتكفير كل من تعاطى الكلام لأن خصمه كان يحتج بقول أحمد علماء الكلام زنادقة الذي قاله فيمن أنكر الحرف والصوت على أنه ينطبق على الفرقة الأشعرية من باب الأولى وهنا ننطلق لقسم جديد من قصور الفهم فمن صدعك في الكلام عن فهم الآثار ووضعها في سياقها ومعرفة متى قيلت ولما

لم يكلف نفسه قراءة المقال والنظر هل المقال ذكر للاحتجاج على مسألة تكفير جميع الأعيان أم ذكر لأجل مسألة إطلاق الوصف على الفرقة ثم احتج بهذا الأثر الذي قيل فيمن فعل فعل هذه الفرقة وقال بمثل قولها فأتى المعترض وحرف استدلال خصمه من الاستدلال على تكفير فرقة أنكرت الأفعال الاختيارية والحرف والصوت إلى أنه كان يستدل بهذا الأثر على تكفير كل معين ممن اشتغل بالكلام أو نسب لفرقة كلامية  ثم بدأ يجمع الاعتراضات والإلزامات لنقض هذا الاستدلال ولو أنه كلف نفسه قراءة عنوان المقال لما كتب هذه الورقة على ما فيها من حجج واهية لو أن خصمه انتدب للدفاع عن هذا الفهم المغلوط لقدر على إقامة حجته فما بالك والخصم يدفع دمية قش

فإن سأل سائل ألستم حقا تقولون بكفر جميع أعيان تلك الفرق التي قالت بأصول الجهمية الكبار فنجيبه إن المذهب لا ينفك عن أدلته فليس كون خصمك صدق في قول نسبه لك فهذا يعني أنه صادق فيما نسب لك من استدلال على هذا المذهب فمتى تعددت النقاط الخلافية لزم تعدد الاستدلالات على كل نقطة منها وخلط الأدلة في المسائل يؤدي بالضرورة لتحريف المقالة 

فنحن مختلفون في إطلاق الحكم على الفرقة ثم مختلفون في الحكم على أعيان الفرقة ثم مختلفون في هل العذر من الكفر يلزم عنه العذر من جميع أوصاف الذم أم لا

فلما اعترض عليه وقيل أنه كاذب في نقل استدلال خصمه خرج يقول أن خصمه يتبرأ من المقالة ويخفيها ولم يميز الفرق بين نفي نسبة استدلال لمقالة في مقام معين وبين نفي المقالة نفسها

وهذا يوضح لك لماذا خصومنا مغرمون باتباع المنهج الإلزامي فهو منهج آمن يمنحهم عذرا يهربون له عند فضح ضعفهم العلمي أو تدليسهم فحين ينسب أحدهم اللفظ للبخاري ويُفضح كذبهم يقولون كنا نلزم وحين يقولون أن قول اللفظية هو عينه القول بخلق الصوت ويُفضح كذبهم يقولون كنا نلزم وهلم جرا 


النموذج الثالث قصور فهم القواعد الفقهية وهذا النموذج ظهر في نقاش بين أحد إخواننا بين بعض متابعي العميري في المسألة التي أكدنا عليها غير مرة وهي متى كان القول مكفرا فإنه يجوز إطلاق القول على الفرقة المتلبية بهذه المقالة بأنها فرقة كافرة حتى لو كان المعين يحتاج لتفصيل وإقامة حجة وللمفارقة حتى العميري نفسه يقر بهذه القاعدة وإن كان له كلام يحاول التملص من هذا الإطلاق ومن ثمرات نقاشنا مع المخالفين أننا جعلناهم واعين بهذا الأصل لدرجة أني ذات مرة رأيت فيديو بعنوان الرد على من قال أن ابن تيمية يكفر الأشاعرة ثم انتبهت في اليوم التالي أن صاحب الفيديو غير العنوان الرد على من قال أن ابن تيمية يكفر أعيان الأشاعرة وهذا التغيير وإن بدا بسيطا فإن حقيقته الإقرار بخطأ القول بعدم كفر الأشاعرة على الإطلاق واعترافا على حياء بصحة ما أصلنا له في الحكم على هذه الفرقة لكنهم خرجوا بقاعدة جديدة ليهربوا من هذا الإلزام فضربوا مثلا ببدعة الخوارج وقالوا هؤلاء كفار لأنهم استحلوا دماء المسلمين ومن استحل الحرام يكفر ومع ذلك السلف لم يطلقوا القول بكفر الفرقة مع أن مقالاتها كفرية ولزم هؤلاء الجهال بذلك أن ترجمان القرآن ابن عباس ما قدر أن يقيم الحجة على الخوارج مع أن قولهم كفر وكفا بهذا القول جهلا ودليلا على بطلانه


لكن موضوعنا هنا هو ظاهريتهم في القواعد الفقهية الذي جمع بين الجهل بها والجهل بضوابطها ولا توجد قاعدة تقول فقط من استحل الحرام يكفر بل القاعدة الشرعية تقول من استحل حراما مجمعا عليه يكفر وإلا للزمهم أنه كلما اختلف فقيهان في حكم مسألة أحلال هي أم حرام أن يكون أحدهما واقعا بالكفر فنسألهم وقتها هل بقي في الأمة رجل لم يقع في الكفر فأين عصمة الأمة بل بلغ ببعضهم أن يقول أن أنبياء الله لم يعصمهم الله من الوقوع بالكفر فحتى الأنبياء يقعون في الكفر لكن الله يعذرهم فنعوذ بالله من هذا المسلك كيف يجوز لإنسان أن ينطق بهذا الكفر الشنيع فقط ليدافع عن بعض المبتدعة بل كيف يجوز له أن يقوله حتى لو دفاعا عن الصحابة فهل يجوز لشخص أن يقع بالكفر فقط لينفي الكفر عن غيره


ثم هم لم يفرقوا بين الاستحلال بالمطلق كقولك الزنا حلال أو الخمر حلال وهذا هو الكفر الذي تحتاج فيه لإقامة الحجة وبين استحلال أمور تدخل في هذه المسميات بتأويل فاسد أنها ليست من جنسها كمن يحرم الزنا ويحل المتعة أو يحرم الخمر يستحل النبيذ 

والخوارج من هذا الصنف فهم لا يقولون قتل المسلمين جائز هكذا بل هم يقولون قتل المسلمين حرام لكنهم حكموا على أناس بالكفر فاستحلوا دماءهم لذلك فكان هذا التأويل مخرجا لهم من الكفر مدخلا لهم في البدعة بل وقع الخلاف في كفرهم وتوقف في كفرهم بعض السلف لأن النصوص فيهم شديدة ففي بعض الأحاديث نعتهم بالمروق من الدين وفي هذا كذلك الرد على من جعل مجرد التأويل عذرا فالخوارج تأولوا ولم يعذروا بل صاروا مضرب المثل فيمن لا يعذر بتأويله وإن حسب أنه على صواب كما جاء عن علي وأبي بكرة رضي الله عنها لأن التأويل درجات بحسب الشبهة فيه سواء كانت شبهة في النصوص أو في حال من استحل المسلم دمه أو كفره فلذلك لم يكن عمر رضي الله عنه خارجيا لما كفر حاطبا واستحل دمه لشبهة الحال وكذلك أمثلة هذا في الصحابة ذكر طرفا منها البخاري في باب: مَنْ لَمْ يَرَ إِكْفَارَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا أَوْ جَاهِلًا بعد ذكره حديث من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما في باب: من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال.


ومثل ذلك زعمهم أن ابن مسعود وقع في الكفر لما كان ينكر قرآنية المعوذتين وأن عمر بن الخطاب وقع في الكفر لما أنكر الحرف الذي قرأ به هشام بن حكيم بن حزام متعلقين بقاعدة من أنكر آية من القرآن فقد كفر فيزعمون أن هؤلاء الأفاضل وقعوا في الكفر في حين أن هذه القاعدة بهذه الصياغة لم تظهر إلا متأخرا وإن كانت صياغة جائزة أما صياغتها الدقيقة فهي من جحد آية من القرآن فقد كفر أو من جحد آية من كتاب الله فقد جحده كله والجحود أمر زائد عن مجرد الإنكار والتكذيب وأخص منه فالإنكار يكون فيما خفي وفيما ظهر ويكون في الصدق والكذب لكن الجحود لا يكون إلا في الصدق البين ولهذا تجد في كثير ممن ينقلون الإجماع على كفر من أنكر حرفا أو آية من القرآن أو جحد ذلك يخصون المصاحف التي بأيدي الناس ومصحف عثمان الذي انعقد عليه إجماع الصحابة ولا يكفرون من أنكر قراءة في غير مصحف عثمان فضلا أن يكفروا رجلا أنكر آية قبل أن تفتح له المصاحف ثم يجحدها أو لم يعلم بنزولها أصلا قبل جمع القرآن فانظر إلى هؤلاء الذين فهموا الأحاديث والآثار والقواعد الفقهية وكلام خصومهم فهما جمع بين بلادة أهل الظاهر وقلة فهمهم للعلة والحكمة وقياس الأولى ودلالة التضمن وبين تحايل أهل الرأي وتعنتهم فتارة يجعلون الآثار قاصرة على من قيلت فيه لا تعدوه وإن كان في الناس من فعل فعله وحاله نفس حاله فعندهم تكفير اللفظية لا يشمل الأشعرية وتكفير منكر العلوا لا يشمل متأخريهم ثم يجمعون لذلك تحايل أهل الرأي فيقولون هذا النص يراد به المآل وهذا النص يراد به الكفر الأصغر وهذا النص معناه أنه لم يكفرهم وتارة يحملون الآثار والقواعد ما لا تحمله فيجعلون قواعد السلف تقتضي تكفير من لم يقع بالكفر أصلا ثم يريد أن يلزمك إما بتكفيره أو بالتسليم لأصوله الفاسدة التي تقضي إعذار من وقع بالكفر المجمع عليه في أوضح صوره التي لا يختلف اثنان أنها الصورة التي نص عليها السلف فحسبنا الله ونعم الوكيل 

تنبيه أخير فلو قال قائل هل من العدل أن تأتي لثلاث أشخاص فتعمم حالهم على كل مخالفيك فأقول هؤلاء النماذج ذكرتهم ليعلم القارئ أن هذا ليس حوارا افتراضيا أو متخيلا بل هو حوار حقيقي جرى مع ناس حقيقيين أما الشبهات والأدلة المطروحة فكل من شهد السجال الذي يجري بيننا وبين مخالفينا سيعلم أن الحجج المذكورة عليها إجماع منهم وإن اختلفو فلن يكون خلافهم إلا في بعض الأمثلة لا غير


*

إرسال تعليق (0)
أحدث أقدم