الإمام مالك وردت عنه روايتان في الإيمان إحداها أنه قال الإيمان يزيد وتوقف في إطلاق لفظ النقصان والرواية الثانية وهي الشهيرة عند أصحابه أنه وافق جمهور السلف على قولهم الإيمان يزيد وينقص
لا يوجد أي رواية أن الإمام مالك قال الإيمان لا ينقص وهذا من افتراء بعض المعاصرين الذين أرادوا أن يدافعوا عن أئمة الجهمية فرموا الإمام مالك بهذه التهمة حتى يقيسوا بدع التجهم الكفرية على القول بعدم نقصان الإيمان وهذا لا يفيدهم في شيء حتى ولو ثبت عنه ذلك - وهو بريء منه - فإن قياس بدع الجهمية الكفرية على بدع المرجئة من أبطل الباطل
و طريقة هؤلاء هي طريقة المعارض الجهمي الذي يرد عليه الإمام الدارمي في نقضه على بشر المريسي الجهمي
قال الإمام أبو سعيد الدارمي:
« افتتح هذا المعارض كتابه بكلام نفسه مثنيا بكلام المريسي، مدلسا على الناس بما يهم أن يحكي ويري من قبله من الجهال ومن حواليه من الأغمار، أن مذاهب جهم والمريسي في التوحيد؛ كبعض اختلاف الناس في الإيمان في القول والعمل، والزيادة والنقصان، وكاختلافهم في التشيع والقدر، ونحوها؛ كي لا ينفروا من مذاهب جهم والمريسي أكثر من نفورهم من كلام الشيعة والمرجئة والقدرية.
وقد أخطأ المعارض محجة السبيل، وغلط غلطا كثيرا في التأويل، لما أن هذه الفرق لم يكفرهم العلماء بشيء من اختلافهم، والمريسي وجهم وأصحابهم؛ لم يشك أحد منهم في إكفارهم»
[نقض الدارمي على المريسي - ت الشوامي (ص43)]
ذكر ابن عبد البر في انتقائه عن ابن وهب:
« قَالَ سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ الإِيمَانِ فَقَالَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ قُلْتُ أَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ قَالَ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي غَيْرِ آيٍ مِن الْقُرْآنِ أَنَّ الإِيمَانَ يَزِيدُ فَقُلْتُ لَهُ أَيَنْقُصُ قَالَ دَعِ الْكَلامَ فِي نُقْصَانِهِ وَكُفَّ عَنْهُ فَقُلْتُ فَبَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ قَالَ نَعَمْ»
[الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر (ص33)]
فهذا صريح في توقف الإمام مالك في إطلاق لفظ النقصان لأنه لم يقف على ما يدل على إطلاق اللفظ في كتاب الله سبحانه مع قوله بتفاضل الإيمان، فتوقفه من باب الورع وعدم إطلاق ما لم يجده منصوصاً في القرآن
وقد نبه على هذا ابن تيمية حيث قال:
«وَكَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ لَمْ يُوَافِقُوا فِي إطْلَاقِ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا ذِكْرَ الزِّيَادَةِ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَجِدُوا ذِكْرَ النَّقْصِ وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ؛ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ كَقَوْلِ سَائِرِهِمْ: إنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؛ وَبَعْضُهُمْ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ إلَى لَفْظِ التَّفَاضُلِ فَقَالَ أَقُولُ: الْإِيمَانُ يَتَفَاضَلُ وَيَتَفَاوَتُ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَكَانَ مَقْصُودُهُ الْإِعْرَاضَ عَنْ لَفْظٍ وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ إلَى مَعْنًى لَا رَيْبَ فِي ثُبُوتِهِ»
[مجموع الفتاوى (7/ 506)]
وقال أيضا:
«وَلِهَذَا كَانَ " أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ " عَلَى أَنَّهُ يَتَفَاضَلُ وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ: يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَزِيدُ وَلَا يَقُولُ: يَنْقُصُ كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَتَفَاضَلُ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ
[مجموع الفتاوى (7/ 223)]
فهؤلاء الأئمة وافقوا البقية في تفاضل الإيمان ثم اختلفوا في الألفاظ فمالك توقف في لفظ النقصان وعبر عن ذلك ابن المبارك بالتفاضل بدل الزيادة والنقصان
ولهذا ابن تيمية رحمه الله بعدما ذكر كلام أهل السنة على اختلاف ألفاظهم ذكر أن المرجئة تنكر التفاضل في الإيمان فقال :
وَأَنْكَرَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ تَفَاضُلَ الْإِيمَانِ وَدُخُولَ الْأَعْمَالِ فِيهِ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ؛ وَهَؤُلَاءِ مِنْ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ
[مجموع الفتاوى (7/ 507)]
فالإمام مالك لم يقل بنفي النقصان ولم يوافق المرجئة بشيء من أقوالهم بل كان يثبت تفاضل الإيمان كما ذكر عنه ابن وهب.
وقد صح عن الإمام مالك قوله بنقصان الإيمان موافقة للجمهور من السلف الكرام
«وقد رَوَى ابنُ القاسم، عن مالك، أنَّ الإيمانَ يَزيدُ، ووَقَف في نُقْصانِه. ورَوَى عنه عبدُ الرزّاق، ومعنُ بنُ عيسى، وابنُ نافع، وابنُ وَهْب، أنَّه يَزيدُ ويَنقُصُ، يزيدُ بالطّاعَةِ، ويَنقُصُ بالمعصِيَة. وعلى هذا مَذهبُ الجماعةِ من أهلِ الحديث، والحمدُ للّه»
[التمهيد - ابن عبد البر (6/ 394 ت بشار)]
فهنا ذكر رواية الوقف في النقصان ثم ذكر الرواية الأشهر وهي قوله بالزيادة والنقصان
قال ابن عبد البر:
«حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ فَتْح، قال: حَدَّثَنَا إسحاقُ بنُ إبراهيم، قال: حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ خالد، قال: حَدَّثَنَا عبيدُ بنُ محمد الكَشْوَرِيُّ بصنعاءَ، قال: حَدَّثَنَا سَلَمةُ بنُ شَبِيب، قال: سمعتُ عبدَ الرزّاق يقولُ: سمعتُ سُفيانَ الثَّوريَّ، ومعمرًا، وابنَ جُرَيج، ومالكَ بنَ أنس، وسُفيانَ بنَ عُيَيْنة، يقولون: الإيمانُ قولٌ وعملٌ، يَزيدُ ويَنقُصُ. فقلنا لعبد الرزّاق: فما تقولُ أنت؟ قال: أقولُ: الإيمانُ قولٌ وعملٌ، يَزيدُ ويَنقُصُ، فإن لَمْ أقلْ هذا، فقد ضَلَلْتُ إذن وما أنا من المهتدين»
[التمهيد - ابن عبد البر (6/ 394 ت بشار)]
وهذا أيضاً فيه أنه يقول بالزيادة والنقصان
قال الإمام أبو بكر الخلال:
«1043 - أَخْبَرَنِي زَكَرِيَّا بْنُ الْفَرَجِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، تَقُولُ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَتَقُولُ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَيَكُونُ ذَاكَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى هَذَا الْأَشْيَاءَ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا يَكُونُ أَنْقَصَ مِمَّنْ لَمْ يَفْعَلْهَا، وَيَكُونُ هَذَا أَكْثَرَ إِيمَانًا مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَكُونُ الْإِيمَانُ بَعْضُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَعْضٍ، هَكَذَا هُوَ " فَتَذَاكَرْنَا مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، فَعَدَّ غَيْرَ وَاحِدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ: يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ مَالِكَ يَحْكُونَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، فَقَالَ: بَلَى، قَدْ رُوِيَ عَنْهُ: يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، كَانَ ابْنُ نَافِعٍ يَحْكِيهِ عَنْ مَالِكٍ. فَقُلْتُ لَهُ: ابْنُ نَافِعٍ حَكَى عَنْ مَالِكٍ؟ قَالَ: نَعَمْ "»
[السنة لأبي بكر بن الخلال (3/ 591)]
فهذا الإمام أحمد يحكي عنه أنه يقول بالزيادة والنقصان
والذين رمى الإمام مالك في قوله بأن الإيمان لا ينقص وجعل قوله موافقاً لبعض فرق المرجئة هو الزبيدي الحنفي
قال الشيخ عبد الرزاق البدر بعد أن أورد روايات الإمام مالك في زيادة الإيمان ونقصانه:
«فهذا ما وقفت عليه مما نقل عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان، ولم أقف فيما أطلعت عليه من روايات عن الإمام أنه جزم بعدم نقص الإيمان، وإنما الذي ورد عنه في بعض الروايات التوقف في القول بنقص الإيمان، وفرقٌ بين الجزم بنفي الشيء، وبين التوقف فيه. وبهذا يتبين خطأ قول الزبيدي عندما أورد قول مالك هذا (أي: توقفه في النقصان) ثم أورد بعده ما روي عن أبي حنيفة من طريق غسان وجماعة من أصحابه أنه قال:"الإيمان يزيد ولا ينقص". ثم قال الزبيدي:"وهو بعينه قول مالك"»
[زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه (ص279)]
ذكر ذلك الزبيدي الحنفي في كتابه اتحاف السادة المتقين انتصاراً لإمام مذهبه أبي حنيفة النعمان المرجئ والله المستعان
ويحسن التنبيه أن بعض المالكية وجهوا توقف مالك في لفظ النقصان توجيهات باطلة بناء على إرجاءهم ومخالفتهم لإمامهم مالك رحمه الله تعالى فمنهم من قال توقف في إطلاق لفظ النقصان لأن التصديق لا ينقص فإن نقص صار شكاً ومنهم من قال من أجل ألا يظن الناس موافقته للخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي بالذنوب وكل هذه التوجيهات باطلة على طريقة المرجئة، لأن الزيادة والنقصان يعتري التصديق أيضاً على مذهب أهل السنة والجماعة وكذلك نقصان الإيمان لا يلزم الإخراج من الإسلام بل هذا على أصل الخوارج الذين قالوا بأن الإيمان شيء واحد لا يتبعض وقد وافقهم على هذا الأصل المرجئة
وأما الإمام مالك فتوقفه كان ورعاً لأنه لم ير لفظ النقصان منصوص في القرآن كما هو واضح في روايته أعلاه.
هذا وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم