تهدف هذه المقالة إلى الرد على التدليس المستمر الذي يمارسه المدعو هادي بن إبراهيم، والذي يحاول من خلاله إثارة النزاعات والوقيعة بين الإخوة، وذلك عبر نسبته أصولاً باطلة لطائفة أهل الأثر.
وكذلك محاولاته لتخفيف وطأة الكلام والتبديع الموجه لأبي حنيفة، لا سيما في مسألتي الإرجاء والرأي.
أولاً: دحض اتهامات هادي لأصول أهل الأثر
يزعم المدعو هادي أن أصولنا تتلخص في الطعن في المعاصرين، والتعدي على بعض المتقدمين كابن تيمية وابن قدامة والطحاوي، وتبديع كل من خالفنا في الحكم على الأشخاص وتبديع كل من وقع في بدعة دون النظر لأصوله، وأننا نتساهل في قول الروايات الضعيفة وأننا وقعنا بسبب ذلك بتبديع "الكثير من علماء المسلمين ،وأخيرا رمانا بالتشبيه
والرد على هذه الافتراءات كالتالي:
الاتهام الأول الطعن في المعاصرين والتعدي على المتقدمين:
هذا الكلام فارغ، حيث إن الشيخ أبا جعفر له سلسلة مراجعات ومناصحات يثني فيها على ما عند المعاصرين من خير ويطالبهم بإصلاح أخطائهم.
كما أن الشيخين أبا جعفر وأبا موسى يحيلان على كتب ومؤلفات المعاصرين ويُثنيان عليها ويدافعان عنهم.
أما الطعن في شيخ الإسلام ابن تيمية فهو كذب، فلم يطعن فيه إلا جماعة من الزائفة بعد تحريض مبني على لوازم هي في أصلها نفس أصول هؤلاء الناس حيث يأتونك بكلام لرجل متأخر ويقول لك إما تترك كلام السلف لأجل قول هذا أو يلزمك الطعن فيه
فهم من أصلوا لهذا الأصل الباطل ابتداء لذلك لما خرج من اطردوا مع هذا الأصل لم يكن عندهم ما يقدرون أن يردوا به عليهم ولم يتصدا لأولئك الغلاة إلا نحن لأننا نقضنا هذا الأصل بكليته.
أما ابن قدامة، فهذا كذب محض فليس منا من طعن فيه، بل جل كلامنا في الدفاع عنه والثناء عليه.
ويجدر هنا أن ننبه لأمر متى رأيت خصمك ينسب لك مقالات لم تقلها ويرد عليها أو ينسب لك أشخاصا لا تعترف بهم فاعلم أنه إنما ألجأه لذلك ضعف رده على حجتك فذهب ينسب لك أمورا ويرد عليها أو يشنع عليك بها
أما الطحاوي فنعم الرجل عندنا مبتدع مرجئ وكلامه في عقيدته الطحاوية في الإيمان وفي مواضع أخرى خطأه فيها كثير من العلماء وكثير منهم ردوا على من حاول توجيه عباراته كأمثال ابن أبي العز فقد رد عليه ابن باز والفوزان وغيرهم وقالوا أن ابن أبي العز إنما دفعه لذلك حنفيته
أما مسألة الشدة في الكلام عموما، فقد اشتدت الأمة من قبل في بعضهم، ومن قبلهم الصحابة والشدة في الحق والشدة على أهل البدع محمودة وهي مما يمدح به الإنسان وليس مذمة وكذلك غضب الإنسان لنفسه ممن افترى عليه في دينه فجائز وقد غضب لذلك خير الناس وبحسبك قصة نبي الله موسى لما أراد قوم أن يرموه بالزنا.
وذكر كلاما للشيخين الله أعلم بصحته عنهما في الشدة في بعض مسائل الفروع على بعض العلماء ولكن أذكر ما قال إسحاق الكوسج في مسائله : قيل له -يعني سفيان-: رجل تزوج امرأة ذات محرم وهو يعلم؟
قال: لا أرى عليه حدا ولكن يعزر.
قال أحمد: قبح الله هذا القول. قلت: أليس تقول يقتل؟ قال: يقتل إذا كان على العمد.أهـ
فهل أحمد طعان في العلماء؟ لا إنما شنع على سفيان في هذه المسألة ومعلوم مكانة سفيان عند أحمد
الاتهام الثاني التبديع لأجل الحكم على الأشخاص
زعمُ هادي أننا نبدع كل من خالفنا في الحكم على الأشخاص هو كذب محض لا يقولوه من يعلم أن الكذب حرام وعنده دين.
فنحن نحب ونجل ابن القيم مثلاً رغم قوله عن أبي حنيفة "إمام"، ونحب ونوالي ابن عثيمين مع قوله عن النووي "إمام" (رغم اضطراب الكلام في هذه المسألة) ونحن كنا من دافعنا عن هؤلاء أمام الغلاة الذين كفروهم بالأصول والإلزامات التي أخذوها عنكم أو أخذتموها عنهم والله أعلم من أعدى الأول
لكننا نبدع من يريد أن يجعل فرق البدعة من أهل السنة ويريد أن يجعل الخلاف معهم عديم القيمة أو يبدع أهل السنة ويطعن فيهم لأنهم تبعوا سلفهم في الكلام في شخص أو طائفة أو لأنهم نزلوا قواعد السلف على متأخر لا يقدرون أن يثبتوا فيه فارقا شرعيا يخرجه من هذا العموم
وينوه هنا لأمر وهو خصومنا هم من يبدعونك لأجل حكمك على الأشخاص فغالبا يبدعونك لأجل قولك في أبي حنيفة ويبدعون في فلان وفلان وهذه التهمة التي هم متلبسون بها تجدهم يتحرقون شوقا لإلصاقها بك حتى يستروا سوأتهم وفي هذا من غبائهم ما لا يخفى وخصوصا في مسألة أبي حنيفة فلكم أعجب حين يأتيني بكلام متأخر من الناس في الثناء على أبي حنيفة ويلزمني أني إن رددت قوله فأنا طاعن به في حين أنه هو من يرد آثار وكلام من هو خير من هؤلاء ويعادي من يأخذ به ويتهمهم بالتهم الشنيعة وهم إنما يلجأون لذلك ويستميتون فيه لأنهم لا يريدون أن يظهر أنهم يعادونك لأجل فلان المبتدع بل يريد أن يصور للناس أنه إنما يحاربك لأجل طعنك في من مدح الرجل أو قال عنه إمام وبذلك يهرب من فضيحته برميه السلف بالظلم والكذب والحسد ومما يلزمه من أنه حين يطعن فيمن أخذ بالآثار فإنه يطعن بأصحاب هذه الآثار
وأما اتهامه لنا بالغلو في مشايخنا فليس فيه من الحق نتفة وغالب ما قاله في هذه الاتهامات كان كلاما إنشائيا لما أحرجته أسئلة أخينا محمد المقدسي ولذلك تجد ما يذكره من أمثلة الغلو هي أمور طبيعية يفعلها كثير من الطلبة لمشايخهم أقصى ما قد يقال فيها أنها مبالغة لكنها لا تمت للغلو بصلة فأين الغلو أن يقول ناس عن شيخ يحبونه أنه مجدد وقد رأوا منه إحياء لكثير من مواقف السلف ونهج الآثار كما فعل محمد بن شمس الدين حيث قرب كتب السلف وآثارهم لعامة الناس حتى صار يعرفها الكبير والصغير لدرجة أنه اغتاظ من ذلك بعض الناس وصاروا يتذمرون أن يروا كتاب السنة لعبد الله بن أحمد في يد شاب حديث السن
وكذلك فعل عادل آل حمدان من انكبابه على تحقيق كتب السلف فهذا من جميع هؤلاء تجديد لدين الله عز وجل في باب ماتت السنة فيه وليس قولنا عن شخص أنه مجدد معنى أنه أعلم أهل زمانه أو أنه بلغ درجة الاجتهاد المطلق بل نقول ذلك لمن أحيا الله به سننا قد أميتت والإمام أحمد أثبت هذه المكانة للمتوكل وليس بعالم فضلا أن يكون أعلم أهل عصره
قال: قال عبيد اللَّه بن حنبل: حدثني أبي قال: قال عمي: وعمر بن عبد العزيز جاء إلى أمر مظلم فأناره، وإلى سنن قد أميتت فأحياها، لم يخف في اللَّه لومة لائم، ولا خاف في اللَّه أحدًا، فأحيا سننًا قد أميتت، وشرع شرائع قد دَرست، ﵀.
قال عمي: ويقال: إن في كل كذا وكذا يقوم قائم بأمر اللَّه، ثم ذكر المتوكل، فقال: لقد أمات عن الناس أمورًا قد كانوا أحدثوها من درس الإِسلام، وإظهار المنكر.
قلت: فتراه من أُولي الحق؟
قال: أليس قال النبي -ﷺ-: «من أحيا سنة من سنتي قد أميتت، فقد أظهر ما أَظهر»، وأي بلاء كان أكثر من الذي كان أحدث عدو اللَّه وعدو الإِسلام في الإِسلام من إماتة السنة. يعني: الذي قبل المتوكل، فأحيا المتوكل السنة، رضوان اللَّه عليه.
وقوله نرى مشايخنا حكما على كلام المعاصرين لأنهم وافقوا السلف في مسائل أليس خيرا من جعلهم الخلف حكما على كلام السلف لأنهم وافقوا هواهم في مسائل، ومع هذا فإنا نأخذ كلامه إن وافق الحق والبرهان وإلا رددناه والحمد لله لسنا مثلكم في تقديم كلام المعاصرين على إجماعات سبقت من لدن السلف ومن تبعهم
أما قول هادي "يبدعون كل من وقع في بدعة" فنعم، فكل من وقع ببدعة فهو مبتدع وقوله بغير النظر لأصوله فهذا لا يقال فيمن وقع في بدعة بل يقال فيمن وافق المبتدعة على أحد فروع أقوالهم فهذا يقال فيه وافق المبتدعة لكنه ليس بمبتدع لأن أصوله ليست أصولهم
أما من وافق المبتدعة في أصل من أصولهم فضلا أن يوافقهم في كلها فهذا أصلا لا معنى لأن يقال وقع في بدعة لكن أصوله ليست أصولهم لأن البدعة أصلا لا تقال لمجرد المقالات الفرعية بل تقال في الأصول البدعية
كإخراج العمل من الإيمان وتفضيل علي على الصحابة والقول بخلود أهل الكبائر في النار وإنكار الشفاعة والقول بعدم الصلاة والجهاد والحج مع أئمة الجور أو جواز الخروج عليهم بالسيف فمن قال بشيء من هذا فهو مبتدع ولا يقال ننظر في أصولهم أولا،
وضربه المثال بأثر مجاهد باطل لأننا لم نبدع أحدا لرده الأثر لضعفه عنده بل بدعنا من رد الأثر لأصل مبتدع مثل قول الألباني في أثر الجلوس "أنا أكفر به" وربما شنعنا على من قلل بمجاهد تلميذ ترجمان القرآن وزعم أنه يقول في القطعيات بأقوال أهل الكتاب وهذا والله فيه من قبح المقال وسوء الأدب مع أئمة هذا الدين مافيه فضلا أن بعض الناس يبدع من يأخذ بهذا الأثر وغيرهم يريد أن يجعله خصيصة لمن يدعوهم الحدادية كأنهم اخترعوه من عندهم
وأما قوله : أننا نتساهل في قول الروايات الضعيفة وأننا وقعنا بسبب ذلك بتبديع "الكثير من علماء المسلمين. وتلميحه بأنا نشبه الله عز وجل بخلقه
فنحن نطالب هذا الأفاك بالإتيان بالدليل لهذا كله لكنه لما أعياه الرد واكتشف أنه يحاربنا على شخص، افترى علينا فرىً ورمانا بما رمانا به الأشعرية وأذنابهم من الحركية
ثانياً: محاولة التخفيف من الإرجاء والرأي المنسوبين لأبي حنيفة النعمان
يحاول هادي أن يخفف وطأة الكلام والتبديع على مسامع الناس بشأن أبي حنيفة، فيقول أن الآثار منها ماهو مكذوب مثل القول بجواز الخنزير البري
ومنها ما تراجع عنه مثل القول بخلق القرآن
ومنها ماله في القول بها تأويل على طريقة القسمة الثلاثية التي ما وجدناها في الآثار على معين غير أبي حنيفة
فيقول لك الآثار عن السلف في ذم الرجل كثير منها لا يثبت عن قائله أصلا وكثير منها ثبت عن القائل من السلف لكنه لا يصح عن أبي حنيفة -يعني السلف كانوا يفترون على الرجل أو يصدقون قول المفترين بغير تبين- ثم يقول لك وما ثبت عن السلف وثبت عن أبي حنيفة فهذا قد تاب عنه ورجع عنه
والنتيجة أن من عاصر أبا حنيفة كمالك والأوزاعي وسفيان ثم الطبقة بعدها كأحمد والبخاري ومسلم وإسحاق الذين هم عندنا حكام على حديث رسول الله ﷺ نصحح ونضعف بقولهم لا يقبل كلامهم في أبي حنيفة ويقبل كلام المتأخرين
فأما الصنفان الأولان فليس هذا ما أكثر الناس فيه على أبي حنيفة بل ما تكلم الناس في أبي حنيفة وأكثروا هو عين ما قال مالك : قال عبدالملك بن حبيب : ولقد أخبرني مطرف أنهم سألوا مالكا عن تفسير الداء العضال في هذا الحديث فقال: " هو أبو حنيفة وأصحابه وذلك أنه ضلل الناس بوجهين بالإرجاء وبنقض السنن بالرأي فهو عندنا أشأم مولود في الإسلام ضل به بشر كثير وهم متمادون في الضلال بما يشرع الى يوم القيامة"
ومع هذا فإن كثير من هذه الأقوال مثبت أصلا ولا يسلم لمن زعم الطعن في صحتها من الأمور التي زعم أنها مكذوبة عليه، مثل قوله بحل الخنزير البري، فهذه قد أثبتها البخاري. قال البخاري في كتابه القراءة خلف الإمام وعلى عادته بالكناية عن أبي حنيفة قال : وَيَزْعُمُ أَنَّ الْخِنْزِيرَ الْبَرِّيَّ لَا بَأْسَ بِهِ وَيَرَى السَّيْفَ عَلَى الْأُمَّةِ وَيَزْعُمُ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ مَخْلُوقٌ.
وروى عبدالله بن أحمد بإسناد يقارب الصحة أنه كان يقول به
كذلك رأيه في الخروج والسيف أثبته البخاري وأبو يوسف كما في السنة.
روى عبد الله في السنة عن الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ، يَقُولُ: «كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَرَى السَّيْفَ» قُلْتُ: فَأَنْتَ؟ قَالَ: «مَعَاذَ اللَّهِ»
وقدمنا كلام البخاري في كتابه القراءة خلف الإمام
لكن هادي يريد تحريف البحث لجعل أبي حنيفة وكأنه رجل مظلوم مكذوب عليه رمي بفرى كثيرة – مثل الامام المجدد مثلا تجد القبورية يرمونه بالباطل حتى ماهو خارج محل النزاع فهكذا يرى هادي أبا حنيفة - فلما كان ذلك صار عليه لزاما إما أن يأخذ بآثار السلف في أبي حنيفة لإرجائه لأنه وجد أنها هي الأصل ، أو أن يخفف من التهمة نفسها فكان الثاني
ومن العجب أن الرجل لما كان يحاجج أشعريا قال له
وكل كلمة قالها هنا حجة عليه فكيف تزعم الإجماع على أبي حنيفة أنت أو غيرك وقد اشتهر الطعن به بل من طعن بأبي حنيفة خير ممن طعن بالأشعري وتوبة الأشعري أثبت من توبة أبي حنيفة بل وكيف تحيل هذا الرجل إلى كتب تجعلها حجة في معرفة الله ثم لا تقبل كلام أصحاب هذه الكتب أنفسهم في أبي حنيفة
وننوه هنا على أمر آخر ؛ يحاول هادي في دفاعه عن أبي حنيفة أن يذكر مخالفته للجهمية في الإيمان - وكأن هذا هو ما أخذ عليه أصلا وليس بذاك - فتجده يذكر كلامه وكلام متقدمي الأحناف في الجهمية، ثم يأتي على مرجئة الجهمية كالنووي وابن دقيق العيد والقاضي عياض وغيرهم فيثني عليهم ويترحم عليهم ويطعن علينا في تكفيرهم وينشر مقالات العميري في الدفاع عنهم ، فما المعنى في هذا كله إلا اللف والدوران بغية التلبيس على أهل الأثر ؟!
2. مسألة الرأي ومخالفة السنة
يحاول هادي التخفيف من ذم أبي حنيفة في مسألة الرأي، مدعياً أنه كان يتبع السنة وأن أصوله موافقة لأهل السنة في الأخذ بالأحاديث، وهذا باطل.
وله في هذه المسألة تلاعبات وتدليسات فمنها أنه يتجاهل أن شروط أبي حنيفة في قبول الحديث ليست على أصول أهل السنة أصلا فعنده وعند أهل مذهبه أن القياس مقدم على حديث الصحابي غير الفقيه – وهذا لما ذكر كلام البزدوي ان الحديث مقدم عندهم على القياس لكن تجاهل أنه في نفس الكتاب يقول أن القياس مقدم على حديث أبي هريرة وغيره ممن ليسوا بفقهاء – ونحن كما أننا لما نرد على منكري السنة فلا فرق عندنا بين من يقول لا أقبل كلام النبي ﷺ وبين من يقول أقبله لكن لا أقبل كل كتب الحديث هذه فكذلك لا فرق عندنا بين من يقدم القياس على الحديث وبين من يقول الحديث عندي مقدم على القياس لكن يشترط في الحديث المقبول عنده شروطا ما أنزل الله بها من سلطان
ثم هو يحاول الاستشهاد بروايات كذب مخالفة للواقع ليزعم أن الرجل كان معظما للحديث منها مثلا
ما رواه ابن عبد البر بغير إسناد عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ كَلَّمْتُ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الْإِرْجَاءِ فَجَعَلَ يَقُولُ وَأَقُولُ فَقُلْتُ لَهُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلٍ الشَّامِ عَنِ أبِيهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ سَوَاءً إِلَى آخِرِهِ قَالَ حَمَّادٌ فَقُلْتُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ قَالَ وَالْإِيمَانُ ثُمَّ جَعَلَ الْهِجْرَةَ وَالْجِهَادَ مِنَ الْإِيمَانِ قَالَ فَسَكَتَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَلَا تُجِيبُهُ يَا أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ لَا أُجِيبُهُ وَهُوَ يُحَدِّثُنِي بِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
فهذه رواية يحتج بها البعض أن أبا حنيفة تاب عن إرجائه ويحتج بها هادي أن أبا حنيفة كان معظما للحديث وإذا جاءه الرجل بالحديث فإنه لا يرده ويسلم به وهذه رواية لا إسناد لها في الوجود تفرد بها ابن عبد البر المغربي المالكي عن سائر أهل المشرق من الأثبات الحفاظ ومن الحنفية أيضا
ومن أراد الرواية الكاملة لمجلس حماد مع أبي حنيفة بمكة فسيجدها مسندة في كتب كثيرة ليس فيها إلا استخفاف أبي حنيفة بالسنة وإصراره على الإرجاء ومن ذلك ما روى ابن حبان في صحيحه
أَخبَرنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ الشَّيْبَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ السَّامِيُّ، قَالَ: حَدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِمَكَّةَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنِّي لَبِسْتُ خُفَّيْنِ وَأَنَا مُحْرِمٌ، أَوْ قَالَ: لَبِسْتُ سَرَاوِيلَ وَأَنَا مُحْرِمٌ، شَكَّ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْكَ دَمٌ، قَالَ: فَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: وَجَدْتَ نَعْلَيْنِ، أَوْ وَجَدْتَ إِزَارًا؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ، فَقَالَ: سَوَاءٌ وَجَدَ أَوْ لَمْ يَجِدْ.
فَقُلْتُ: حَدثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ، وَالْخُفَّيْنِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ».
وَحَدثنا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ، وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ».
قَالَ: فَقَالَ بِيَدِهِ، وَأَشَارَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَعْبَأْ بِالْحَدِيثِ، فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ فَتَلَقَّانِي الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا أَرْطَاةَ، مَا تَقُولُ فِي مُحْرِمٍ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ، أَوْ لَبَسَ الْخُفَّيْنِ؟ فَقَالَ: حَدثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ، وَالْخُفَّيْنِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ».وَحَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ، وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا بَالُ صَاحِبِكُمْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ قال: ومن ذاك، وصاحب من ذاك، قبح الله ذاك.
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن أحمد في السنة حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو مُوسَى، ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِمَكَّةَ فَذَكَرَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَانْتَحَلَهُ فِي الْإِرْجَاءِ فَقُلْتُ مَنْ يُحَدِّثُكَ يَا أَبَا حَنِيفَةَ؟ قَالَ: سَالِمٌ الْأَفْطَسُ، فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ سَالِمًا يَرَى رَأْيَ الْمُرْجِئَةِ، وَلَكِنْ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: رَآنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ جَلَسْتُ إِلَى طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ فَقَالَ: أَلَمْ أَرَكَ جَلَسْتَ إِلَى طَلْقٍ؟ لَا تُجَالِسْهُ، قَالَ: فَكَانَ كَذَلِكَ، قَالَ: فَنَادَاهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا حَنِيفَةَ وَمَا كَانَ رَأْي طَلْقٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ نَادَاهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ قَالَ: وَيْحَكَ كَانَ يَرَى الْعَدْلَ "
وكان الإمام البخاري شديداً في الكلام على أبي حنيفة في كتابه القراءة خلف الإمام وتطرق لمسائل أخرى في ثلبه ذكرنا طرفا منها ، مع أنه ذكر جماعة ممن وافقوا أبو حنيفة في بعض هذه المسائل - مثل سفيان ووكيع - ، لكنه لم يساوي بينهم فأبو حنيفة أصوله تهدم السنة بالرأي فليس هو مثلهم
وكان أحمد يكره الاحتيال كما يحتال أصحاب أبي حنيفة وكان يقول ما رأي أبي حنيفة والبعر عندي إلا سواء
وكان الأوزاعي يقول لا نعيب على أبي حنيفة أنه يرى كلنا يرى لكن نعيب عليه أنه كان يأتيه الحديث فيرده برأيه
وعد يوسف بن أسباط الأحاديث التي خالفها أبو حنيفة وردها بعد بلوغها إليه ولسنا في مقام عد من طعن في الرجل من أهل الحديث فهذا مقام يطول
3. موقف ابن باز من إرجاء أبي حنيفة
يُدلّس هادي بخصوص رأي الشيخ ابن باز في حذف فصل أبي حنيفة من كتاب السنة لعبد الله بن أحمد، لما ذكر عن شارح الطحاوية أن الشيخ قال عن فعل بعض العلماء في حذف هذا الفصل أنها كانت سياسة شرعية مما ينبغي فعله.
وهذا النقل يحتوي على تدليسين؛ الأول من صاحب الشرح الذي حاول لوي السياق فجعله في عدم الكلام في أبي حنيفة مطلقا وأنه مبحث ولى وانتهى ولا طائل من الكلام فيه،
والثاني من هادي الذي ربطها بمن ينكرون وجود هذا الباب أو يريدون تركه وعدم طبعه على الإطلاق.
الحقيقة أن ابن باز لا يعد أبا حنيفة من أهل السنة بإطلاق.
فقد قال لما سُئل عن مرجئة الفقهاء إنهم الذين يقولون: "العمل ليس من الإيمان"، مضيفاً: "يعني: كما يُذكر عن أبي حنيفة وغيره".
كما سُئل ابن باز: هل يشهد للأئمة الأربعة بالجنة؟ فأجاب: "هم من أهل السنة وإلا أبو حنيفة فيه كلام من جهة الإرجاء والبقية معروفون رحمهم الله مالك والشافعي وأحمد معروفون من أهل السنة أبو حنيفة فيه نقص من جهة الإرجاء العملي لكنه فقيه معروف رحمه الله".
كما استغرب ابن باز على رجل استنكر الكلام الموجود في أبي حنيفة أنه لم يقرأ السنة لعبد الله بن أحمد وأحاله للكتاب ليعرف حقيقة ما قيل في أبي حنيفة.
أما حذف الفصل في عهد الملك عبد العزيز، فكان لمصلحة شرعية تتعلق بنشر كتب السنة في الحجاز المليئة بالأحناف آنذاك، وليس نفياً للكلام فيه.
فليس هو الذي يرفض الكلام في أبي حنيفة كما لمح الأول ، ولا هو بالذي يرى الفصل لا فائدة منه وينبغي إزالته أو أنه غير صحيح نسبته في المقام الأول كما لمح الثاني
ثالثاً: عظم بدعة الإرجاء
يحاول هادي التخفيف من إرجاء أهل الرأي، وقد يظهر أنه لا يراها بدعة أصلاً.
وهذا مردود وقد نقلنا كثيرا من الكلام في هذا وبينا في فيديوهات عدة ومقالات أن الإرجاء الذي ذمه السلف وقالوا فيه ما قالوا كان هذا الإرجاء الذي هو إخراج العمل من الإيمان وكل من أراد أن يجعل كلام السلف مختصا بالجهمية فهو كذاب لا شك فيه
وقال وكيع:"لَيْسَ بَيْنَ كَلَامِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ كَبِيرَ فَرْقٍ قالت الجهمية الإيمان معرفة بالقلب، وقالت المرجئة: الإقرار باللسان.
وفي هذا فائدتان الأول عظم الإرجاء وقبحه حتى شبهه وكيع بمقالة الجهمية ، الثاني تفريقه هنا يبين لك أن المرجئة في إطلاق السلف غير الجهمية
وقال أحمد لما سئل هل المرجئة تقول أن من عرف ربه بقلبه فهو مؤمن أجاب المرجئة لا تقول هذا، بل الجهمية تقول بهذا، المرجئة تقول: حتى يتكلم بلسانه وتعمل جوارحه، والجهمية تقول: إذا عرف ربه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه، وهذا كفر؟ إبليس قد عرف ربه، فقال: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الحجر: ٣٩]، قلت: فالمرجئة لما كانوا يجتهدون وهذا قولهم؟ قال: البلاء.
السلف لم يكونوا يستعملون مصطلح المرجئة للدلالة على الجهمية إلا في مواضع يسيرة لا تعد على الأصابع فإذا علمت هذا فاقرأ آثار السلف في ذم المرجئة واعلم أن جميعها واقعة على أبي حنيفة
ثم يزيد فعله قبحا بمحاولة نسبة التخفيف من الإرجاء لأبي عبيد القاسم بن سلام
لأجل كلام مشتبه قاله أول الكتاب ولم يبالي بما ذكر في الكتاب نفسه
فأبو عبيد ذكر في أول كتابه أنه يريد تعريف مذهب أهل السنة للسائل، وأن من فارقهم هو من خالفهم في زيادة الإيمان ونقصانه، وهذا هو أصل الخلاف مع المرجئة.
ونص أبو عبيد على أن الأمر الذي عليه السنة هو أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً.
وأكد أن تارك الآثار التي تثبت دخول الأعمال في الإيمان هو معاند لها ومكذب بها.
وذكر أن الله لم يجعل للإيمان حقيقة إلا بالعمل على الشروط المذكورة في القرآن (سورة الأنفال) ، وأن من يزعم أن الإيمان بالقول خاصة دون عمل هو معاند لكتاب الله والسنة.
ثم نذكر كذلك شيئا من تدليسات الرجل الظاهرة التي تثبت لك أن محمله التعصب ليس الحق فمن ذلك أنه نقل رواية في النوادر أن أبا حنيفة لا يجيز القول إيماني كإيمان جبريل والغريب أنه بهوى أو بجهل يجعل هذه المقالة هي مقالة الجهمية فيجعل براءته منها براءة من إرجاء الجهمية في حين أن هذه المقالة هي قول جميع المرجئة لكن بعضهم يصرح ويلتزم وبعضهم يكابر
فالطحاوي مثلا يقول في عقيدته والإيمان واحد وأهله في أصله سواء إنما يتفاضلون بالخشية
فهذا نص يوضح لك أن الناس عندهم إيمان جبريل كإيمان سائر من قال لا إله إلا الله والتفاضل إنما هو بالخشية فقط وتحت هذا يدخل مبحث هل أعمال القلوب تسمى إيمانا عند المرجئة لو كان هذا له علم بهذا المبحث لما تجرأ أن يحتج بهذا لكن التدليس منه كان أولا في أنه كتم قول السلف في صاحب كتاب النوادر ولم يذكر إلا كلام ابن أبي حاتم في مدحه
وثانيا أنه نقل الكلام مجتزأً ولم يذكر ما قبله بسطر وهو قول أبي حنيفة أنا مؤمن عند الله حقا
وقد قال حرب من قال أنا مؤمن عند الله فهذا من أخبث قول المرجئة
وفعل مثل هذا مع العمراني لما زعم أنه يبرئه من إرجاء الجهمية والعمراني إنما كان يتكلم عن قصة أبي حنيفة المشهورة لما مر بسكران فسبه فقال أبو حنيفة أهذا جزائي أن جعلت إيمانك كإيمان جبريل وقد بينا أن هذا القول ليس قول الجهمية بل هو قول جميع المرجئة على أنه لا يصرح به إلا بعض غلاتهم وإني لأعجب من هادي كيف يعتمد على العمراني في تبرئة أبي حنيفة من هذا في مع الانقطاع بينهما ولو جاز استعمال هذا المبدأ فثبوت هذه القصة على أبي حنيفة أولى لأن من حكوها أقرب لزمانه وقد حكاها عنه عدة من الثقات الأمناء منهم سعيد بن منصور بسند ثابت عنه فهل سيعلها بأن سعيد لم يلق أبا حنيفة
واخيرا ، هادي بعدما اشتد في مسألة أبي حنيفة صار ينحرف شيئا فشيئًا حتى اتهم كتب السلف انها تصل الى الغلو ببعض الشباب وأنه ينبغي التدرج بقراءة كتب أمثال ابن تيمية رحمه الله ، وصار يقول بأن المرجئة ليسوا مبتدعة والخلاف لفظي ، وينشر مقالات العميري الإرجائية التي يدافع فيها عن الجهمية
فدل أنه ما يفعل هذا الا اتباعا لهواه لا بغية للحق ولا لابطال باطل وسنرى في قابل الأيام أين يوصله هواه والله المستعان


